الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
وهو من أبيات سيبويه: من أجلك يا التي تيمت قلبي *** وأنت بخيلةٌ بالوصل عني على أنه شاذ: لأن في لام التي اللزوم فقط وليس فيها العوضية أيضاً. قال بعض شراح المفصل: ولو قلت: تقديره: من أجلك يا حبيبتي التي تيمت قلبي، لم يبق إشكال؛ لأن التي لم تكن منادى على هذا التقدير. انتهى. وروي فديتك يا التي الخ . ومعنى تيمت: ذللت واستعبدت؛ ومنه تيم اللات أي: عبد اللات. وروي: وأنت بخيلة بالود عني ، أي: علي. ومن اجلك يقرأ بنقل فتحة ألف أجلك إلى نون من. وقوله: من اجلك علةٌ معلولها محذوف، أي: من أجلك قاسيت ما قاسيت؛ وخبر مبتدأ محذوف، أي: من أجلك مقاساتي. وكان القياس أن يقول تيمت بتاء التأنيث على الغيبة، لكن جاء على نحو قوله: أنا الذي سمتن أمي حيدرة والقياس سمته. وجملة أنت بخيلة حال عاملها تيمت. وهذا من الأبيات الخمسين التي لم يعرف لها قائل ولا ضميمة. وأنشد بعده: وهو فيا الغلامان اللذان فر *** إياكما أن تكسبانا شرا على أنه أشذ مما قبله: إذ ليس في أل التي في الغلامين لزوم ولا عوض. وخرجه ابن الأنباري في الإنصاف على حذف المنادى وإقامة صفته مقامه قال: التقدير فيه وفي الذي قبله، فيا أيها الغلامان، ويا حبيبتي التي؛ وهذا قليل بابه الشعر . وإياكم: تحذير. وأن تكسبان: أي: من أن تكسبانا؛ وماضيه كسب يتعدى إلى مفعولين، يقال: كسبت زيداً مالاً وعلماً أي: أنلته . قال ثعلب: كلهم يقول: كسبك فلانٌ خيراً، إلا ابن الأعرابي فإنه يقول: أكسبك بالألف كذا في المصباح . وهذا البيت شائعٌ في كتب النحو، ولم يعرف له قائل ولا ضميمة. وأنشد بعده: وهو الشاهد الثلاثون بعد المائة: إني إذا ما حدثٌ ألم *** أقول: يا اللهم يا اللهما على أن اجتماع يا والميم المشددة شاذ. والحدث محركة: ما يحدث من أمور الدهر. وروى أبو زيد في نوادره: إني إذا ما لممٌ ألما هو بفتحتين مقارفة الذنب، وقيل هو الصغائر. وألم الشيء: قرب. وأقول: خبر إن، وإذا: ظرف له. وهذا البيت أيضاً من الأبيات المتداولة في كتب العربية، ولا يعرف قائله ولا بقيته. وزعم العيني أنه لأبي خراش الهذلي. قال: وقبله: إن تغفر اللهم تغفر جم *** وأي عبدٍ لك لا ألما وهذا خطأ؛ فإن هذا البيت الذي زعم أنه قبله، بيتٌ مفرد لا قرين له، وليس هو لأبي خراش، وإنما هو لأمية بن أبي الصلت، قاله عند موته، وقد أخذه أبو خراش وضمه إلى بيت آخر وكان يقولهما، وهو يسعى بين الصفا والمروة، وهما: لاهم هذا خامسٌ إن تم *** أتمه الله وقد أتما إن تغفر اللهم تغفر جم ***............. الخ وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم وصار من جملة الأحاديث؛ أورده السيوطي في جامعه الصغير، ورواه عن الترمذي في تفسيره، وعن الحاكم في الإيمان والتوبة عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال المناوي في شرحه الكبير: يجوز إنشاد الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما المحرم إنشاؤه. ومعناه إن تغفر ذنوب عبادك فقد غفرت ذنوباً كثيرة؛ فإن جميع عبادك خطاؤون. وقوله: لا ألما أي: لم يلم بمعصية. وأنشد بعده: وهو وهو من أبيات جمل الزجاجي: وما عليك أن تقولي كلم *** سبحت وصليت: يا اللهم ما أردد علينا شيخنا مسلما على أن ما تزاد قليلاً بعد يا اللهم . هذا الرجز أيضاً مما لا يعرف قائله. وزاد بعد هذا الكوفيون: من حيثما وكيفما وأينم *** فإننا من خيره لن نعدما فقوله: وما عليك.. الخ ما استفهامية، والمعنى على الأمر. والتسبيح: تنزيه الله وتعظيمه وتقديسه. وصليت بمعنى دعوت، والصلاة الشرعية. وروى بدله: هللت ، أي: قلت لا إله إلا الله؛ كما أن سبحت: قلت سبحان الله. والشيخ هنا: الأب والزوج. ومسلم: اسم مفعول من السلامة. وقوله: من حيثما ، أي: من حيثما يوجد..الخ. وقوله: فإننا من خيره ، الخير هنا: الرزق والنفع. ولن نعدما بالبناء للمفعول. أمر بنيته وزوجته بالدعاء له، إذا سافر وغاب، في أوقات الدعوات وفي مظان القبول: كما فعلت بنت الأعشى ميمون: تقول بنتي وقد قربت مرتحل *** يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي *** نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا وقال أيضاً: تقول ابنتي حين جد الرحيل *** أرانا سواءً ومن قد يتم أبانا، فلا رمت من عندن *** فإنا بخيرٍ إذا لم ترم ويا أبتا، لا تزل عندن *** فإنا نخاف بأن نحترم أرانا إذا أضمرتك البل *** د نجفى ويقطع منا الرحم فقوله: قربت ، بالبناء للمفعول، والمرتحل الجمل الذي وضع عليه الرحل؛ وهذا كناية عن الرحيل. والأوصاب: جمع وصب، وهو المرض.و صليت: دعوت. ويتم ييتم من باب تعب وقرب: إذا صار يتيماً. ورام يريم بمعنى برح يبرح. ولا تزل من زال يزول، والأفعال الثلاثة بعده بالبناء للمفعول. وأنشد بعده وهو يا تيم تيم عدي لا أبا لكم *** لا يلقينكم في سوءةٍ عمر على أن تيماً الأول يجوز فيه الضم والنصب؛ وفي الثاني النصب لا غير؛ وبينه الشارح المحقق. قال اللخمي في شرح أبيات الجمل: وأضاف تيماً إلى عدي للتخصيص. واحترز به عن تيم مرة في قريش، وهم بنو الأدرم؛ وعن تيم غالب بن فهر، في قريش أيضاً؛ وعن تيم قيس بن ثعلبة؛ وعن تيم شيبان؛ وعن تيم ضبة. وعدي المذكور هو أخو تيم، فإنهما ابنا عبد مناة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر. ومعنى لا أبا لكم ، الغلظة في الخطاب، وأصله أن ينسب المخاطب إلى غير أب معلوم شتماً له واحتقاراً، ثم كثر في الاستعمال حتى جعلت في كل خطاب يغلظ فيه على المخاطب. وحكى أبو الحسن بن الأخضر: أن العرب كانت تستحسن لا أبا لك، وتستقبح لا أم لك؛ لأن الأم مشفقة حنينة، والأب جائر مالك. وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الثاني عشر بعد المائة. وقوله: لا يلقينكم بالقاف من الإلقاء وهو الرمي؛ قال ابن سيده: من رواه بالفاء فقد صحف وحرف. وروي: لا يوقعنكم ، والنهي واقع في اللفظ على عمر، وهو في المعنى واقع عليهم. والسوءة بالفتح: الفعلة القبيحة، أي: لا يوقعنكم عمر في بلية ومكروه لأجل تعرضه لي، أي: امنعوه من هجائي حتى تأمنوا أن ألقيكم في بلية، فإنكم قادرون على كفه؛ فإذا تركتم نهيه فكأنكم رضيتم بهجوه إياي. وهذا البيت من قصيدة لجرير يهجو بها عمر بن لجأ التيمي ولجأ بفتح اللام والجيم وآخره همزة ومنها: تعرضت تيم لي عمداً لأهجوه *** كما تعرض لاست الخارئ الحجر أنت ابن برزة، منسوبٌ إلى لج *** عند العصارة والعيدان تعتصر خل الطريق لمن يبني المنار به *** وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر أحين صرت سماماً يا بني لج *** وخاطرت بي عن أحسابها مضر وهي قصيدة طويلة أفحش فيها. فلما توعدهم فيها أتوه به موثقا وحكموه فيه فأعرض عن هجوهم. وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء: لما بلغ ذلك تيماً أتوا عمر وقالوا: عرضتنا لجرير، وسألوه الكف، فأبى وقال: أكف بعد ذكره أمي؟! وبرزة هي أم عمر بن لجأ. يقال: فلان عصارة فلان أي: ولده. وهو سب. وقوله: خل الطريق..الخ هذا من أبيات سيبويه، أورده على أن فيه إظهار الفعل قبل الطريق والتصريح به؛ ولو أضمره لكان حسناً، على ما بينه. يقول: خل طريق المعالي والشرف والمفاخرة، واتركه لمن يفعل أفعالاً مشهورة كأنها الأعلام التي تنصب على الطريق وتبنى من حجارة ليهتدى بها؛ وعيره بأنه يقول: ابرز بها عن الناس وصر إلى موضع يمكنك أن تكون فيه لما قضي عليك. وقيل: معناه: دع سبيل الرشاد لطالبيه، وأبرز إلى سبيل الغي إذا اضطرك قضاء الله وقدره؛ يعرض بأن أمه كانت فاجرة. والسمام بالكسر: جمع سم وهو الشيء القاتل. وخاطره على كذا أي: راهنه، من الخطر، وهو السبق، بتحريكهما، وهو الشيء الذي يتراهن عليه. وروي بدله: وحاضرت ، بالحاء المهملة والضاد المعجمة، يقال: حاضرته عند السلطان، وهو كالمغالبة والمكابرة. وأجابه عمر بن لجأ بقصيدة منها: لقد كذبت وشر القول أكذبه *** ما خاطرت بك عن أحسابها مضر بل أنت نزوة خوار على أمةٍ *** لن يسبق الحلبات اللؤم والخور ما قلت من هذه إني سأنقضه *** يا ابن الأتان، بمثلي تنقض المرو والنزوة: مصدر نزا الذكر على الأنثى؛ وهذا يقال: في الحافر والظلف والسباع. والخوار: من الخور، وهو ضعف القلب والعقل. والحلبات بالحاء المهملة. وكان سبب التهاجي بين جرير وعمر بن لجأ، هو ما حكاه المبرد في كتاب الاعتنان عن أبي عبيدة: أن الحجاج بن يوسف الثقفي سأل جريراً عن سبب التهاجي بينه وبين شعراء عصره؛ فبين له جرير سبب كل واحد. إلى أن قال الحجاج: ثم من؟ قال: ثم التيمي عمر بن لجأ. قال: وما لك وله؟ قال: حسدني فعاب علي بيتاً كنت قلته، فحرفه: لقومي أحمى للحقيقة منكم *** وأضرب للجبار والنقع ساطع وأوثق عند المرهفات عشيةً *** لحاقاً إذا ما جرد السيف لامع فقال لي: إنما قلت: وأوثق عند المردفات عشية فصيرت نساءك قد أردفن عدوة ولحقتهن عشية وقد فضحن؛ ولم أقله كما حكى. قال الحجاج: فما قلت له؟ قال: قلت: له أحذره وأحذر قومه: يا تيم تيم عدي لا أبا لكم *** البيت قال: فنقض علي بأشد مما قلت له فقال: لقد كذبت وشر القول أكذبه *** البيت قال أبو عبيدة: وأما كردين المسمعي فأخبرني قال: كان بدء الشر بين ابن لجأ وجرير: أن لقمان الخزاعي قدم على صدقات الرباب، فحضرته وجوه الرباب وفيهم عمر بن لجأ، فأنشده: تأوبني ذكرٌ لزولة كالخبل *** وما حيث تلقى بالكثيب ولا السهل تريدين أن أرضى وأنت بخيلةٌ *** ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل حتى فرغ منها. فقال له لقمان: ما زلنا نسمع بالشام أن هذه لجرير! فقال عمر بن لجأ: إني لأكذب شيخ في الأرض إن ادعيت شعر جرير. ثم أنشدته على رؤوس الناس وجماعات الرباب!! فأبلغ لقمان جريراً مقالة عمر، قال: فزعم عمر أنك سرقتها منه! فقال جرير: وأنا أحتاج إلى أن أسرق شعر عمر وهو القائل في إبله ووصفها حتى جعلها كالجبال ثم جعل فحلها كالظرب وهو الجبل الصغير في الغلظ من الأرض فقال: كالظرب الأسود من ورائها ثم قال: جر العروس الثني من ردائها والله ما شعره من نمط واحد، وإنه لمختلف العيون! فأبلغ لقمان عمر قول جرير وما عاب من قوله؛ فقال عمر: أيعيب جرير قولي: جر العروس الثني من ردائها وإنما أردت لينه ولم أرد أثره؛ وقد قال هو أقبح من هذا، حين يقول: وأوثق عند المردفات عشية فلحقهن بعد ما نكحن وفضحن! فقال جرير: حرف قولي، إنما قلت: عند المرهفات عشية . فوقع الشر بينهما. انتهى. وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب. وأنشد بعده وهو وهو من شواهد س: يا زيد زيد اليعملات الذبل *** تطاول الليل عليك فانزل لما ذكر في البيت قبله. وهو ظاهر. واليعملات . بفتح الياء والميم: الإبل القوية على العمل. والذبل: جمع ذابل، أي: ضامرة من طول السفر. وأضاف زيداً إليها لحسن قيامه عليها ومعرفته بحدائها. وقوله: تطاول الليل عليك.. الخ روي: هديت بدل عليك، وهو المناسب. أي: انزل عن راحلتك واحد الإبل، فإن الليل قد طال، وحدث للإبل الكلال؛ فنشطها بالحداء، وأزل عنها الإعياء. وهذا البيت لعبد الله بن رواحة الصحابي رضي الله عنه، لا لبعض ولد جرير، خلافاً لشراح أبيات سيبويه. وهو بيتان لا ثالث لهما، قالهما في غزوة مؤتة وهي بأدنى البلقاء من أرض الشام وكانت في جمادى الأولى من سنة ثمان من الهجرة. قال ابن عبد البر في الاستيعاب: ذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: كان زيد بن أرقم يتيماً في حجر عبد الله بن رواحة، فخرج به معه إلى مؤتة يحمله على حقيبة رحله، فسمعه زيد بن أرقم من الليل وهو يتمثل أبياته التي يقول فيها: إذا أديتني وحملت رحلي *** مسيرة أربعٍ بعد الحساء فشأنك فانعمي وخلاك ذمٌ *** ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المؤمنون وغادروني *** بأرض الشام منتهى الثواء فبكى زيد بن أرقم؛ فخفقه عبد الله بن رواحة بالدرة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل؟!.. ولزيد بن أرقم يقول عبد الله بن رواحة: يا زيد زيد اليعملات الذبلتطاول الليل هديت فانزل وقيل: بل قال ذلك في غزرة مؤتة لزيد بن حارثة انتهى. وهذا الثاني بعيد فإنه يستبعد أن يقال لأمير الجيش: انزل عن راحلتك واحد الإبل؛ فإن زيد بن حارثة كان أمير الجيش في غزوة مؤتة كما سيأتي. ومؤتة بضم الميم والهمز. وقوله: إذا أديتني ، خطاب لراحلته. وقوله: الحساء ، بكسر الحاء المهملة وبعدها سين مهملة، قال المبرد في الكامل: هو جمع حسي بكسر فسكون وهو موضع رملٍ تحته صلابة؛ فإذا مطرت السماء على ذلك الرمل نزل الماء فمنعته الصلابة أن يغيض ومنع الرمل السمائم أن تنشفه فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء. ويقال حسى وأحساء وحساء. وقوله: وخلاك ذم أي: تجاوزك الذم، دعاء لها. وقوله: ولا أرجع ، مجزوم بالدعاء؛ ومعناه اللهم لا أرجع انتهى. وقوله منتهى الثواء هو اسم فاعل منصوب على الحال. وعبد الله بن رواحة أنصاري خزرجي. وهو أحد النقباء. شهد العقبة، وبدراً، وأحداً، والخندق، والحديبية، وعمرة القضاء، والمشاهد كلها إلا الفتح، ومات بعده: لأنه قتل يوم مؤتة شهيداً. وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة، وأحد الشعراء المحسنين الذين كانوا يردون الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه وفي صاحبيه حسان وكعب بن مالك نزلت: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا الآية. وسبب غزوة مؤتة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم، وقيل إلى ملك بصرى، فعرض له شرحبيل ابن عمرو الغساني، فأوثقه رباطاً، وضرب عنقه صبراً ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ غيره فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر، فبعث بعثه صلى الله عليه وسلم إلى مؤتة واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيدٌ فجعفر ابن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. فتجهز ثلاثة آلاف رجل، ثم مضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل والعرب في مشارف من قرى البلقاء، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة وكان الروم مائة ألف. وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلي مائة ألف أخرى ثم التقوا فاقتتلوا. فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل شهيداً، فأخذها جعفر ثم قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل، فأخذ الراية خالد بن الوليد ودافع الناس، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما زيد بن أرقم فهو أنصاري خزرجي من بني الحارث بن الخزرج. وزيد ابن أرقم هو الذي رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن أبي، ابن سلول قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأكذبه عبد الله بن أبي وحلف، فأنزل الله تصديق زيد بن أرقم، فبشره أبو بكر بتصديق الله إياه. وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بأذن زيد وقال: وفت أذنك يا غلام . وشهد مع علي وقعة صفين؛ وهو معدود في خاصة أصحابه. ونزل الكوفة وسكنها وابتنى بها داراً، وبها كانت وفاته في سنة ثمان وستين. وأما زيد بن حارثة فهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أصابه سباء في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل النبوة، وهو ابن ثمان سنين. ثم إن ناساً من كلب حجوا فرأوا زيداً فعرفهم وعرفوه؛ فقال لهم: أبلغوا أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي، فقال: أحن إلى قومي وإن كنت نائي *** فإني قعيد البيت عند المشاعر فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم *** ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر فإني، بحمد الله، في خير أسرةٍ *** كرامٍ معد كابراً بعد كابر فانطلق الكلبيون فأعلموا أباه فقال: ابني ورب الكعبة! ووصفوا له موضعه وعند من هو. فخرج حارثة وكعب أخوه لفدائه وقدما مكة، فدخلا على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه؛ أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني وتطلقون الأسير؛ جئناك في ابننا عبدك؛ فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه. قال: من هو؟ قالا: زيد بن حارثة. فقال صلى الله عليه وسلم: ادعوه فأخيره، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً. قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت. فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي! قال: فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك، فاخترني واخترهما. قال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان الأب والعم! فقالا: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً! فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما، فانصرفا. ودعي زيد بن محمد؛ حتى جاء الله بالإسلام فنزلت: ادعوهم لآبائهم ، فدعي يومئذٍ زيد بن حارثة؛ وكان يقال: له زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد بدراً وزوجه مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة. وقتل زيد بمؤتة سنة ثمان من الهجرة، وهو كان الأمير على تلك الغزوة. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أحب الناس إلي من أنعم الله عليه وأنعمت عليه يعني زيد بن حارثة. أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه صلى الله عليه وسلم بالعتق. ولخصت التراجم من الاستيعاب، والغزوة من سيرة ابن سيد الناس. واعلم أني رأيت في نوادر ابن الأعرابي أرجوزة عدتها اثنان وعشرون بيتاً مطلعها: يا زيد زيد اليعملات الذبل قال: أنشدني بكير بن عبيد الربعي. ولا أعلم من هو: أهو سابق على عبد الله بن رواحة أم لاحق له؟ . والظاهر أنه بعده: فإن الرجز في الجاهلية كان لا يتجاوز الأبيات الثلاثة والربعة، وإنما قصده وأطاله الأغلب العجلي كما تقدم بيانه في ترجمته. والله أعلم. وأنشد بعده: وهو فلا والله لا يلفى لما بي *** ولا للما بهم أبداً دواء على أن اللام الثانية في قوله: للما مؤكدة للام الأولى. ويأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق به في باب التوكيد، وفي الباء والكاف أيضاً من حروف الجر. وهذا البيت من قصيدة لمسلم بن معبد الوالبي. قال أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب: كان السبب في هذه القصيدة: أن مسلماً كان غائباً فكتبت إبله للمصدق أي: لعامل الصدقة، وهي الزكاة وكان رقيع وهو عمارة بن عبيد الوالبي عريفاً، فظن مسلم أن رقيعاً أغراه وكان مسلم ابن أخت رقيع وابن عمه فقال: بكت إبلي، وحق لها البكاء، *** وفرقها المظالم والعداء إذا ذكرت عرافة آل بشرٍ *** وعيشاً ما لأوله انثناء ودهراً قد مضى ورجال صدقٍ *** سعوا، قد كان بعدهم الشقاء إذا ذكر العريف لها اقشعرت *** ومس جلودها منه انزواء فظلت وهي ضامرةٌ تفادى *** من الجرات جاهدها البلاء وكدن بذي الربا يدعون باسمي *** ولا أرضٌ لدي ولا سماء تؤمل رجعةً مني، وفيه *** كتابٌ مثل ما لزق الغراء عذرت الناس غيرك في أمورٍ *** خلوت بها فما نفع الخلاء فليس على ملامتناك لومٌ *** وليس على الذي نلقى بقاء ألما أن رأيت الناس آبت *** كلابهم علي لها عواء ثنيت ركاب رحلك مع عدوي *** لمختتلٍ، وقد برح الخفاء ولاخيت الرجال بذات بيني *** وبينك، حين أمكنك اللخاء وأي أخٍ لسلمك بعد حربي *** إذا قوم العدو دعوا فجاؤوا فقام الشر منك وقمت منه *** على رجلٍ وشال بك الجزاء هنالك لا يقوم مقام مثلي *** من القوم الظنون ولا النساء وقد عيرتني وجفوت عني *** فما أنا ويب غيرك والجفاء وقد يغني الحبيب ولا تراخي *** مودته المغانم والحباء ويوصل ذو القرابة وهو ناءٍ *** ويبقى الدين ما بقي الحياء جزى الله الصحابة عنك شر *** وكل صحابة لهم جزاء بفعلهم، فإن خيراً فخير *** وإن شراً: كما مثل الحذاء وإياهم جزى عني، وأدى *** إلى كل بما بلغ الأداء وقد أنصفتهم والنصف يرضى *** به الإسلام والرحم البواء لددتهم النصيحة كل لد *** فمجوا النصح ثم ثنوا فقاؤوا وكنت لهم كداء البطن يؤذي *** وراء صحيحه مرضٌ عياء جوين من العداوة، قد وراهم *** نشيش الغيظ والمرض الضناء إذا مولى رهبت الله فيه *** وأرحاماً لها قبلي رعاء رأى ما قد فعلت به موالٍ *** فقد غمرت صدورهم وداؤوا فكيف بهم! فإن أحسنت قالو *** أسأت، وإن غفرت لهم أساؤوا فلا وأبيك لا يلفى لما بي *** ولا للما بهم ابداً شفاء وبقي من القصيدة اثنا عشر بيتاً وصف إبله فيها. قوله: المظالم والعداء ، هو جمع مظلمة بكسر اللام وهو ما أخذه الظالم، وكذلك الظلامة والظليمة. والعداء بالفتح: الظلم وتجاوز الحد، وهو مصدر عدا عليه. وقوله: إذا ذكرت ، ظرف لقوله بكت إبلي؛ وفاعل ذكرت ضمير الإبل. وانثناء: انكفاف؛ يقال ثناه: إذا كفه. وقوله: ورجال صدق سعوا ، بالنصب معطوف على عرافة؛ وسعوا أي: تعاطوا أخذ الزكاة؛ والساعي: من ولي شيئاً على قوم، وأكثر ما يقال ذلك في ولاة الصدقة. والانزواء: التقبض. وتفادى من كذا: إذا تحاماه وانزوى عنه. وقوله: عذرت الناس غيرك ، خطاب لرقيع ابن عمه؛ وخلوت بها بالخطاب، أي: سخرت بها، يقال خلوت به: إذا سخرت منه. وقوله: ملامتناك ، أي: لو متنا إياك. وقوله: ألما ، الهمزة استفهام توبيخي؛ ولما بمعنى حين، متعلقة بقوله ثنيت. وآبت: رجعت. وبرح: زال. ولاخيت ، بالخاء المعجمة: مالأت وساعدت. والظنون بالفتح: الرجل السيئ الظن، وهو فاعل يقوم. وويب بمعنى ويل. وقوله: يغنى الحبيب ، أي: يصير غنياً ولا تراخي المغانم والعطاء مودته. والصحابة الأصحاب. والحذاء بالكسر: النعل؛ واحتذى: انتعل؛ أراد: كما صنع مثل الحذاء مطابقاً له. وأنصفت الرجل إنصافاً: عاملته بالعدل؛ والاسم النصفة بالتحريك؛ والنصف بفتح فسكون. والبواء، بفتح الموحدة والمد: السواء. وقوله: لددتهم النصيحة ، اللدود بالفتح: ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم؛ ولددته لداً: صببت في فيه صباً. ومجه: رماه. وثنو: عطفوا ومالوا. وقاله: وقاؤوا ، بالقاف من القيء؛ وصحفه العيني تصحيفاً فاحشاً فقال: قوله: وفاؤوا، خبر مبتدأ محذوف، أي: وهم فاؤوا؛ والجملة حالية وهذا مما لا يقضى منه العجب. وقوله: وكنت لهم كداء البطن.. الخ ، داء البطن: الإسهال؛ ويوذي من الأذية، والواو مسهلة من همزة، والجملة حال من الداء؛ وراء بمعنى خلف وبعد؛ وضمير صحيحه لداء البطن؛ والمرض العياء بالفتح هو المرض الذي تعيا عنه الأطباء؛ والجملة الاسمية حال أيضاً من البطن. يريد أن ما أضمروه من بغضي قاتلهم لا محالة، لأني كنت عندهم بمنزلة داء البطن المؤذي، نشأ من أهونه ما عجز عنه الأطباء كالزحير والسل. وقوله: جوين من العداوة الخ، هذا بيان لما قبله؛ وجوين منصوب بفعل محذوف، أي: أراهم جوين، وهو جمع جوٍ: صفة مشبهة من الجوى كعمٍ من العمى، جمع على طريقة جمع المذكر السالم، والجوى: الحرقة وشدة الوجد من عشق وحزن؛ ووراهم، من ورى القيح جوفه وريا: إذا أكله؛ ونشيش: فاعل وراهم، والنشيش: صوت الماء ونحوه إذا غلي على النار. والضناء بالفتح والمد: اسم مصدر ضني ضنىً من باب تعب: مرض مرضاً ملازماً حتى أشرف على الموت. كذا في المصباح . وقوله: إذا مولى رهبت الله فيه المولى هنا ابن العم، ورهبت الله فيه أي: خفت الله في جانبه. وقوله: قبلي بفتح القاف وسكون الموحدة. والرعاء: جمع راع من الرعاية، وهي تفقد الشيء وتحفظه. وقوله: رأى ما قد فعلت به.. الخ ، ما: موصولة ونكرة موصوفة مفعول أول لرأي، والمفعول الثاني محذوف أي: سوأ ونحوه؛ وموال: فاعل رأى، وهو جمع مولى؛ وغمرت: من الغمربالكسر، وهو الحقد والغل، يقال: غمر صدره علي بالكسر، يغمر بالفتح، غمراً بسكون الميم وفتحها مع فتح الأول فيهما. وداؤوا أي: مرضوا، وهو فعل ماض من الداء، يقال: داء الرجل يداء داء إذا أصابه المرض. وقوله: فكيف بهم ، أي: فكيف أصنع بهم. وقوله: فلا وأبيك..الخ ، جملة لا يلفى جواب القسم، أي: لا يوجد شفاءٌ لما بي من الكدر ولا للما بهم: من داء الحسد؛ والللام الثانية مؤكدة للأولى. وروى صاحب منتهى الطلب من أشعار العرب. فلا والله لا يلفى لما بي *** وما بهم من البلوى..الخ وعليه فلا شاهد فيه. ومسلم شاعر إسلامي في الدولة الأموية. وهو ابن معبد بن طواف بتشديد الواو ابن وحوح بحاءينمهملتين ابن عويمر مصغر عامر الوالبي نسبة إلى والبة بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة . وأنشد بعده: وهو وهو من أبيات س: وصالياتٍ ككما يؤثفين على أنه يمكن أن تكون الكاف الثانية مؤكدة للأولى؛ قياساً على اللامين في البيت الذي قبله، فلا يكون في البيت دليل على اسمية الكاف الثانية. وهو من قصيدة لخطام المجاشعي. وهي من بحر السريع؛ وربما حسب من لا يحسن العروض أنه من الرجز كما توهمه بعضهم؛ لأن الرجز لا يكون فيه معولات فيرد إلى فعولات. ومثله: قد عرضت أروى بقولٍ إفناد وهو مستفعلن مستفعلن فعولات. وأولها: حي ديار الحي بين الشهبين *** وطلحة الدوم وقد تعفين لم يبق من آي بها يحلين *** غير حطامٍ ورمادٍ كنفين وغير نؤيٍ وحجاجي نؤيين *** وغير ود جاذلٍ وودين وصاليات ككما يؤثفين ومنها: ومهمهين قذفين مرتين *** ظهراهما مثل ظهور الترسين جبتهما بالنعت لا بالنعتين *** على مطار القلب سامي العينين فقوله: حي ، فعل أمر من التحية. والحي: القبيلة. والسهبان: موضع، وكذا طلحة الدوم؛ ولم يذكرهما البكري في معجم ما استعجم . والنون في تعفين: ضمير ديار الحي، وتعفى بمعنى عفا اللازم، يقال: عفا المنزل يعفو عفواً وعفواً وعفاء بالفتح والمد: درس. ويتعدى أيضاً؛ فإنه يقال: غفته الريح. والآي: جمع آية بمعنى العلامة. وضمير تحلين لديار الحي، والتحلية: الوصف، يقال: حليت الرجل تحلية: إذا وصفته. يقول: لم يبق من علامات حلولهم في ديارهم تحليها وتصفها غير ما ذكر. ومن زائدة. وآي: فاعل لم يبق. وغير منصوب على الاستثناء. وجملة يحلين صفة لآي. وبها متعلق به. والحطام بضم المهملة: ما تكسر من الحطب، والمراد به: دق الشجر الذي قطعوه فظللوا به الخيام. ورماد مضاف إلى كنفين، أي: رماد من جانبي الموضع؛ ولو روي بالتنوين لم يكن خطأ. ف كنف بفتح الكاف وسكون النون: الناحية والجانب، وأصله بفتح النون، وقيل هو هنا بكسر الكاف وسكون النون، بمعنى وعاء يجعل الراعي فيه أداته. والنؤي بضم النون وسكون الهمزة: حفيرة حول الخباء لئلا يدخله ماء المطر، ويؤخذ ترابها ويجعل حاجزاً للبيت؛ فجعل ذلك الحاجز كحجاج العين، وهو بكسر المهملة وفتحها وبعدها جيمان: العظم الذي ينبت عليه الحاجب. والجاذل ، بالجيم والذال المعجمة: المنتصب، جذل جذولاً: انتصب وثبت. والود: الوتد. وصاليات: أراد بها الأثافي، لأنها صليت بالنار أي أحرقت حتى اسودت، وهي معطوفة على حطام، أي: وغير أثافي صاليات؛ وليست الواو واو رب، خلافاً لابن يسعون؛ بدليل أنه روي بدلها وغير سفعٍ: جمع أسفع، أراد بها الأثافي أيضاً، لأنها قد سفعتها، أي: سودتها وغيرت لونها. وروي أيض: وماثلات أي: منتصبات. والأثافي: جمع أثفية وهي الأحجار الثلاثة التي ينصب عليها القدر. وما في قوله: ككما قال: الفارسي في التذكرة القصرية: يجوز أن تكون مصدرية، كأنه قال: مثل الإثفاء، ويجوز أن تكون موصولة بمنزلة الذي كقوله: فإن الذي حانت بفلج دماؤهم والكاف الأولى جارة والثانية مؤكدة لها، كما قال الشارح. وهذا مأخوذ من الكشاف، قال في تفسير قوله تعالى: {ليس كمثله شيءٌ}: لك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررها من قال: وصاليات ككما يؤثفين وإذا كان من باب التوكيد جاز أن يكون الكافان اسمين وحرفين فلا يكون دليل على اسمية الثانية فقط. وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: أجرى الكاف الجارة مجرى مثل، فأدخل عليها كافاً ثانية؛ فكأنه قال: كمثل ما يؤثفين. وما، مع الفعل، بتقدير المصدر كأنه قال: كمثل إثفائها أي: إنها على حالها حين أثفيت. والكافان لا يتعلقان بشيء، فإن الأولى زائدة والثانية قد أجريت مجرى الأسماء لدخول الجار عليها؛ ولو سقطت الأولى وجب أن تكون الثانية متعلقة بمحذوف صفة لمصدر مقدر محمول على معنى الصاليات، لأنها نابت مناب مثفيات؛ فكأنه قال: ومثفيات إثفاءً مثل إثفائها حين نصبت للقدر. ولا بد من هذا التقدير ليصح اللفظ والمعنى. وأما قوله: يؤثفين، فقد اختلف النحويون في وزنه: فقال قوم: وزنه يؤفعلن، والهمزة زائدة، والثاء فيه ثاء الفعل فكان يجب أن يقول يثفين، لكنه جاء على الأصل ضرورة كما قال الأخر: فإنه أهلٌ لأن يؤكرما وعلى هذا فأثفية أفعولة. فأصلها أثفوية؛ قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، وكسرت الفاء لتبقى الياء على حالها، واستدلوا على زيادة الهمزة بقول العرب: ثفيت القدر إذا جعلتها على الأثافي.. وقال قوم: وزنه يفعلين، فالهمزة أصل، ووزن أثفية على هذا فعلية، واستدلوا بقول النابغة: لا تقذفني بركنٍ لا كفاء له *** وإن تأثفك الأعداء بالرفد فقوله: تأثفك وزنه تفعلك، لا يصح فيه غيره؛ ولو كان من ثفيت القدر لقال تثفاك. ومعناه صار أعدائي حولك كالأثافي تظافراً. قال ابن جني في شرح تصريف المازني: ويفعلين أولى من يؤفعلن، لنه لا ضرورة فيه . وقوله: ومهمهين قذفين الخ هذا البيت من شواهد النحاة، أنشده الزجاج في باب ما جاء من المثنى بلفظ الجمع . وسيأتي إن شاء الله تعالى في الشاهد الثالث والسبعين بعد الخمسمائة في باب المثنى. والمهمة: القفر المخوف، قال ابن السيد في شرح شواهد الجمل: واشتقاقه من قولك مهمهت بالرجل: إذا زجرته فقلت له: مه مه. أراد: أن سالكه يخفي صوته وحركته من خوفه، فإن رفع صاحبه صوته قال له: مه مه. ونظير هذا ما ذكره اللغويون في قول أبي ذؤيب: على أطرقا باليات الخيام فإنهم ذكروا: أن أطرقا موضع، وأنه سمي بذلك لأن ثلاثة أنفس مروا به، فتكلم أحدهم مع صاحبه، فقال لهما الثالث. أطرقا. والقذف ، بفتح القاف والذال المعجمة: البعيد من الأرض. والمرت ، بفتح الميم وسكون المهملة: الأرض التي لا ماء بها ولا نبات. والظهر: ما ارتفع من الأرض، شبهه بظهر ترس: في ارتفاعه وتعريه من النبت، كما قال الأعشى: وفلاةٍ كأنها ظهر ترسٍ *** ليس إلا الرجيع فيها علاق وقوله: جبتهما بالنعت.. الخ ، أي: نعتا لي مرة واحدة فلم أحتج إلى أن ينعتا لي مرةً ثانية، وصف نفسه بالحذق والمهارة. وهذا يشبه ما أنشده الفارسي في التذكرة: ومهمهٍ أعور إحدى العينين *** بصير الأخرى وأصم الأذنين قطعته بالسمت لا بالسمتين قوله: أعور الخ ، قال أبو علي: كانت في هذا الموضع بئران فعورت إحداهما وبقيت الأخرى، فلذلك قال: أعور إحدى العينين. وقوله: وأصم الأذنين ، يعني: أنه ليس به جبلٌ فيسمع صوت الصدى منه. وقوله: بالسمت.. الخ ، أي: قيل لي مرة واحدة فاكتفيت. وواو ومهمهين واو رب وجوابها جبتهما. خطام المجاشعي بكسر الخاء المعجمة، ومعناه الزمام. قال الآمدي في المؤتلف والمختلف: هو خطام الريح المجاشعي الراجز، وهو خطام بن نصر بن عياض بن يربوع، من بني الأبيض بن مجاشع بن دارم. وهو القائل: وماثلاتٍ ككما يؤثفين وذكر الصاغاني في العباب: أن اسمه بشر بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة . وقال الآمدي: ومنهم من يقال له: خطام الكلب واسمه بجير بضم الموحدة وفتح الجيم ابن رزام، ذكره ابن الأعرابي ولم ينسبه، وأنشد له: والله ما أشبهني عصام *** لا خلقٌ منه ولا قوام نمت وعرق الخال لا ينام وأنشد بعده: وهو وهو من أبيات سيبويه: بين ذراعي وجبهة الأسد هذا عجزٌ وصدره: يا من رأى عارضاً أسر به على أن المضاف إليه محذوف، بقرينة المضاف إليه الثاني، أي بين ذراعي الأسد وجبهته. تقدم الكلام على مثل هذا في الشاهد الثالث والعشرين ومن: منادى وقيل: محذوف المنادى، أي: يا قوم، ومن استفهامية. والرؤية بصرية. والعارض: السحاب الذي يعترض الأفق. وجملة أسر به ، صفةٌ لعارض. والذراعان والجبهة: من منازل القمر الثمانية والعشرين، فالذراعان أربعة كواكب، كل كوكبين منهما ذراع. قال أبو إسحاق الزجاج في كتاب الأنواء . ذراع الأسد المقبوضة، وهما كوكبان نيران بينهما كواكب صغار يقال له: الأظفار كأنها في مواضع مخالب الأسد، فلذلك قيل لها الأظفار. وإنما قيل لها الذراع الأخرى، وهي مقبوضة عنها، ونوءها يكون لليلتين تمضيان من كانون الثاني، يسقط الذراع في المغرب غدوة وتطلع البلدة والنسر الطائر في المشرق غدوة. وفيه يجمد الماء ويشتد البرد. والجبهة: أربعة كواكب فيها عوج، أحدهما براق وهو اليماني منها، وإنما سميت الجبهة لأنها كجبهة الأسد. ونوءها يكون لعشر تمضي من شباط، تسقط الجبهة في المغرب غدوة، ويطلع سعد السعود من المشرق غدوة. وفيه تقع الجمرة الثالثة ويتحرك أول العشب، ويصوت الطير ويورق الشجر، ويكون مطرٌ جود. ويسمى نوء الأسد، لأنه يتصل بها كواكب في جبهة الأسد.. وخص هاتين المنزلتين لأن السحاب الذي ينشأ بنوء من منازل الأسد يكون مطره غزيراً، فلذلك يسر به. والنوء: غيبوبة الكوكب في المغرب غدوة وطلوع رقيبه في المشرق غدوة، وسمي النوء لأنه ناء أي: نهض للغيوب. قال الزجاج: والذي أختار مذهب الخليل: وهو أن النوء اسم المطر الذي يكون مع سقوط النجم، فاسم مطر الكوكب الساقط النوء. وكانت العرب تزعم أنه يحدث عند نوء كل منزل مطرٌ وريح، وحر وبرد، وهذا الذي روي في الحديث. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من أمر الجاهلية: الطعن في النساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء ، وهو أن تضيف المطر إلى الكوكب الذي ينوء. قال الأعلم: وصف عارض سحابٍ اعترض بين نوء الذراع ونوء الجبهة؛ وهما من أنواء الأسد؛ وأنواؤه أحمد الأنواء. وذكر الذراعين، والنوء إنما هو للذراع المقبوضة منهما لاشتراكهما في أعضاء السد. ونظير هذا قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} يريد من البحرين الملح والعذب، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح، لا منهما. وهذا البيت للفرزدق. وتقدمت ترجمته في الشاهد الثلاثين. وأنشد بعده وهو وهو من شواهد س: كليني لهم يا أميمة ناصب هذا صدر؛ وعجزه قد أنشده في باب النعت. وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب على أن أميمة جاء بفتح التاء؛ والقياس ضمها. واختلفوا في التوجيه. فقال الجمهور. إنه مرخم، والأصل يا أميم؛ ثم أدخلت الهاء غير معتد بها، وفتحت لأنها وقعت موقع ما يستحق الفتح وهو ما قبل هاء التأنيث. لأبي علي الفارسي فيه قولان: أحدهما أن الهاء زائدة، وفتحت إتباعاً لحركة الميم. والثاني أنها أدخلت بين الميم وفتحتها. فالفتحة التي في أولها هي فتحة الميم ثم فتحت الميم إتباعاً لحركة الهاء.. وقيل: جاء هذا على أصل المنادى ولم ينون لأنه غير منصرف. وقيل: هو مبني على الفتح؛ لأن منهم من يبني المنادى المفرد على الفتح، لأنها حركة تشابه حركة إعرابه، فهو نظير: لا رجل في الدار. وقوله: كليني أمرٌ من وكلت الأمر إليه وكلاً من باب وعد، ووكولاً: إذا فوضته إليه واكتفيت به. وأميمة تصغير ترخيم أمامة، وهي بنته. وناصب بمعنى منصب: من النصب وهو التعب، فجاء به على طرح الزائد وحمله سيبويه على النسب، أي: ذي نصب، كما يقال: طريق خائف أي: ذو خوف. وأقاسيه: أكابده. يقول: دعيني لهذا الهم المتعب ومقاساة الليل البطيء الكواكب بالسهر؛ ولا تزيديني لوماً وعذلاً؛ وجعل بطء الكواكب دليلاً على طول الليل كأنها لا تغرب فينقضي الليل. وما أحسن قول بعضهم: لا أظلم الليل ولا أدعي *** أن نجوم الليل ليست تغور ليلي كما شاءت فإن لم تجئ *** طال وإن جاءت فليلي قصير وهذا البيت مطلع قصيدة للنابغة الذبياني، مدح بها عمرو بن الحارث الأعرج ابن الحارث الأكبر بن أبي شمر بفتح وكسر؛ ويقال: شمر بكسر فسكون حين هرب إلى الشام لما بلغه سعي بن ربيعة بن قزيع به إلى النعمان بن المنذر، وخافه. وهذا عن أبي عبيد. وقال غيره: هو ابن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر. وبعده: تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ *** وليس الذي يرعى النجوم بآيب وصدرٍ أراح الليل عازب همه *** تضاعف فيه الحزن من كل جانب علي لعمرٍو نعمةٌ، بعد نعمةٍ *** لوالده ليست بذات عقارب ومنها: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلولٌ من قراع الكتائب وسيأتي شرحه إن شاء الله تعالى في المستثنى . قوله: وصدر ، معطوف على قوله: لهم في أول البيت. وأراح ، بمهملتين: متعدي راحت الإبل بالعشي على أهلها، أي: رجعت من المرعى إليهم. والعازب ، بالعين المهملة والزاي المعجمة: الغائب، من عزب الشيء عزوباً من باب قعد: بعد، وعزب من بابي قتل وضرب: غاب وخفى. وقوله: لوالده ، أي: لوالد عمرو؛ صفة لنعمة، أي: بعد نعمة كائنة لوالده. وقوله: ليست.. الخ ، الجملة صفة إما لنعمةٌ المرفوعة ولنعمةٍ المجرورة؛ أي: نعمة غير مشوبة بنقمة كنعمة النعمان بن المنذر. وعمرو هذا هو الغساني من ملوك الشام. قال ابن رشيق في العمدة: أول من ولي الشام من غسان الحارث بن عمرو محرق. سمي بذلك لأنه أول من حرق العرب في ديارها، وهو الحارث الأكبر، يكنى أبا شمر.. ثم ابنه الحارث بن أبي شمر، وهو الحارث الأعرج؛ وأمه مارية ذات القرطين، وهي مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية الكندي؛ وأختها هند الهنود امرأة حجر كل المرار الكندي. وإلى الحارث الأعرج زحف المنذر الأكبر فانهزم جيشه وقتل هو.. ثم الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث.. وهو ولد الحارث الأعرج، ثم عمرو بن الحارث، وكان يقال له أبو شمر الأصغر. وله يقول نابغة بني ذبيان: علي لعمرٍ نعمةٌ، بعد نعمةٍ *** لوالده ليست بذات عقارب والنعمان بن الحارث هو أخو الحارث الأصغر. وله يقول النابغة: هذا غلامٌ حسنٌ وجهه *** مستقبل الخير سريع التمام وللنعمان هذا ثلاثة بنين: عمرو وحجر، والنعمان. ومن ولد الأعرج أيضاً: المنذر، والأيهم أبو جبلة. وجبلة آخر ملوك غسان، وكان طوله اثني عشر شبراً وهو الذي تنصر في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وكان أصل هؤلاء من اليمن؛ وكانوا من غسان، وقيل من قضاعة. وأول ملوكهم النعمان بن عمرو بن مالك. ثم من بعده ابنه مالك. ثم من بعد مالك ابنه عمرو.. إلى خروج مزيقيا - وهو عمرو بن عامر - من اليمن في قومه من الأزد؛ وسمي مزيقيا لأنه كان يمزق كل يوم حلة، لا يعود إلى لبسها، ثم يهبها. وسمي عامرٌ ماء السماء لأنه كان يجيء في المحل فينوب عن الغيث بالرفد والعطاء. ومزيقيا: ابن حارثة الغطريف بن ثعلبة البهلول بن امرئ القيس البطريق بن مازن قاتل الجوع ابن الأزد لما خرج مزيقيا من اليمن كان معه رجل اسمه جذع بن سنان فنزلوا بلاد عك فقتل جذعٌ ملك بلاد عك، وافترقت الأزد، والملك فيهم حينئذ ثعلبة بن عمرو بت عامر؛ فانصرف عامله فحارب جرهم فأجلاهم عن مكة واستولوا عليها زماناً ثم أحدثوا الأحداث. وجاء قصي بن كلاب، فجمع معداً - وبذلك سمي مجمعاً - واستعان ملك الروم فأعانه، وحارب الأزد فغلبهم واستولى على مكة. فلما رأت الأزد ضيق العيش بمكة ارتحلت، وانخزعت خزاعة لولاية البيت - وبذلك سميت - فصار بعض الأزد إلى السواد فملكوا عليهم مالك بن فهم أبا جذيمة الأبرش؛ وصار قوم إلى يثرب - فهم الأوس والخزرج - وصار قوم إلى عمان؛ وصار قوم إلى الشام، وفيهم جذع بن سنان، وأتاه عامل الملك في خرج وجب عليه، فدفع إليه سيفه رهناً، فقال له الرومي: أدخله في حر أمك! فغضب جذع وقنعه به فقتله فقيل: خذ من جذعٍ ما أعطاك ؛ وصارت مثلاً. ثم استولوا على الشام كما تقدم ذكره. والله أعلم. تتمة روى المرزباني في الموشح عن الصولي بسنده: أن الوليد بن عبد الملك تشاجر مع أخيه مسلة في شعر امرئ القيس والنابغة الذبياني في وصف طول الليل أيهما أجود؛ فرضيا بالشعبي فأحضر، فأنشده الوليد: كليني لهم يا أميمة ناصب.. الأبيات الثلاثة. وأنشد مسلمة قول امرئ القيس: وليلٍ كموج البحر، أرخى سدوله *** علي بأنواع الهموم، ليبتلي السدول: الستور. ويبتلي: ينظر ما عندي من صبر وجزع. فقلت له، لما تمطى بصلبه *** وأردف اعجازاً وناء بكلكل تمطى: امتد. وصلبه: وسطه. وأردف: أتبع. وأعجازه: مآخيره. وناء: نهض. والكلكل: الصدر. ألا أيها الليل الطويل، ألا انجلي *** بصبحٍ، وما الإصباح منك بأمثل أي: ما الإصباح بخير لي منك. والياء في انجلي أثبتها في الجزم على لغة طيئ. فيالك من ليلٍ كأن نجومه، *** بكل مغار الفتل، شدت بيذبل! المغار: الحبل المحكم الفتل. ويذبل: جبل. كأن الثريا علقت في مصامه *** بأمراس كتانٍ إلى صم جندل في مصامه: في مقامها. والأمراس: الحبال. والجندل: الحجارة. والصم: الصلاب. قال: فضرب الوليد برجله طرباً! فقال الشعبي: بانت القضية! قال الصولي: فأما قول النابغة: وصدرٍ أراح الليل عازب همه فإنه جعل صدره مألفاً للهموم، وجعلها كالنعم العازبة بالنهار عنه، الرائحة مع الليل إليه، كما تريح الرعاة السائمة بالليل إلى مكانها. وهو أول من وصف أن الهموم متزايدة بالليل؛ وتبعه الناس، فقال المجنون: يضم إلي الليل أطفال حبه *** كما ضم أزرار القميص البنائق وهذا من المقلوب:، أراد: كما ضم أزرار القميص البنائق - ومثل هذا كثير - فجعل المجنون ما يأتيه في ليله، مما عزب عنه في نهاره، كالأطفال الناشئة. وقال ابن الدمينة يتبع النابغة: أظل نهاري فيكم متعلل *** ويجمعني والهم بالليل جامع ويروى صدره: أقضي نهاري بالحديث وبالمنى فالشعراء على هذا متفقون، ولم يشذ عنه ويخالفه منهم إلا أحذقهم بالشعر. والمبتدئ بالإحسان فيه امرؤ القيس: فإنه بحذقه وحسن طبعه وجودة قريحته، كره أن يقول: إن الهم في حبه يخف عنه في نهاره، ويزيد في ليله؛ فجعل الليل والنهار سواءً عليه في قلقه وهمه وجزعه وغمه؛ فقال: ألا أيها الليل الطويل.. البيت وقد أحسن في هذا المعنى الذي ذهب إليه، وإن كانت العادة غيره، والصورة لا توجبه. وقد صب الله على امرئ القيس بعده شاعراً أراه استحالة معناه في المعقول، وأن الصورة تدفعه، والقياس لا يوجبه والعادة غير جارية به، حتى لو كان الراد عليه من حذاق المتكلمين، ما بلغ في كثير نثره، ما أتى به في قليل نظمه؛ وهو أبو نفر الطرماح بن حكيم الطائي: فإنه ابتدأ قصيدةً فقال: ألا أيها الليل الطويل، ألا اصبح *** ببم، وما الإصباح فيك بأروح فأتى بلفظ امرئ القيس ومعناه؛ ثم عطف محتجاً مستدركاً فقال: بلى، إن للعينين في الصبح راحةً *** لطرحهما طرفيهما كل مطرح فأحسن في قوله وأجمل، وأتى بحق لا يدفع، وبين عن الفرق بين ليله ونهاره. وإنما أجمع الشعراء على ذلك. من تضاعف بلائهم بالليل وشدة كلفهم، لقلة المساعد وفقد الحبيب، وتقييد اللحظ عن أقصى مرامي النظر، الذي لابد أن يؤدي إلى القلب بتأمله شيئاً يخفف عنه، ويغلب عليه فينسى ما سواه. وأبيات امرئ القيس في وصف الليل، اشتمل الإحسان عليها، ولاح الحذق فيها، وبان الطبع بها؛ فما فيها معابٌ إلا من جهة واحدة عند أمراء الكلام والحذاق بنقد الشعر وتمييزه، وهو قوله: فقلت له لما تمطى.. البيت لم يشرح فقلت له إلا في بيت بعده. وهذا عيب؛ لأن خير الشعر ما لم يحتج بيت منه إلى بيت آخر. وقد تبع الناس امرأ القيس وصدقوا قوله، وجعلوا نهارهم كليلهم، فقال البحتري في غضب الفتح عليه: وألبستني سخط امرئ بت موهن *** أرى سخطه ليلاً مع الليل مظلما وكأنه من قول أبي عيينة في التذكر لوطنه: طال من ذكره بجرجان ليلي، *** ونهاري علي كالليل داجي وترجمة النابغة الذبياني قد تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة.
|